Blog Single

إنها الساعة السادسة والنصف صباحاً. المنبّه يرن مرة أخرى بصوتٍ حادّ، لقد استيقظت بالفعل منذ مدة، لكنني أتكاسل متذرّعة بأنني ما زلت بانتظار رنينه. لقد قمت بتغيير هذه النغمة مرات عديدة، مرة اضع زقزقة عصافير ومرات رسائل تحفيزية، كل على أمل ان يبدو صباحي أقل رتابة، وأقل شبهًا بيومٍ يتكرر بلا نهاية، أو بعجلة فأر تدور دون ان أجد منها مخرجًا.

أنهض بتثاقل، أغطي طفلي النائم، أغسل أسناني، وأتوجّه إلى المطبخ حيث تنتظرني متعتي الصباحية الوحيدة: فنجان قهوة دافئ وخمس دقائق على الشرفة أتنفّس فيها شيئًا من الهواء النقي. بعد ذلك أعود لأرتدي ملابسي، أُحضّر وجبة لطفلي وزوجي، ثم أسرع إلى المكتب، لأبدأ يومًا آخر في سباق لا يتوقف.

عند باب المكتب، آخذ نفسًا عميقًا، أضع ابتسامة على وجهي وأحيّي زملائي بأكبر قدر مما تبقّى لدي من حماسة مصطنعة. لقد أضفت بعض النباتات إلى مكتبي ليبدو أكثر دفئًا وترحيبًا. قد يراها البعض مبالغة، لكن بالنسبة لي لا فرق، المهم أن أشعر بالراحة.

ومع ذلك، لا يهم كم أزيّن مكتبي أو أحاول أن أبدأ يومي بشكلٍ مختلف، فالرتابة تبقى كما هي. خمس سنوات من المهام ذاتها. صحيح أنني حصلت على ترقية، لكن لم يغير تلك المهام سوى أنها تضخّمت، وصارت أكثر وإنهاكًا، كل ذلك في صورة كلاسيكية للاحتراق المهني.

في الآونة الأخيرة، بدأت أقسو على نفسي كثيرًا. أتساءل: لماذا لا أستطيع أن أكون سعيدة بالوظيفة التي أملكها؟ أتذكر جيدًا كم كانت حماستي مشتعلة حين بدأت، وكم أحببت ما كنت أفعله، وكان الراتب كافيًا. فما الذي تغيّر؟ ما الذي حدث لي؟ ولماذا أصبح كل إصبع أحرّكه، وكل فكرة تجول في ذهني، وكل مهمة أُكلَّف بها، تثقل كاهلي بهذا الشكل؟

إذا بدا لك هذا الوصف مألوفًاً، فالأرجح أنك تمرّ بتجربة الاحتراق النفسي

لطالما سمعت عن هذا المصطلح، لكنني لم أتأمل معناه حقًا. كنت أظنه مجرد كلمة حديثة لوصف وضع طبيعي يمر به معظم الناس. لكن الأمر ليس بهذه البساطة.

فما هو الاحتراق تحديدًا؟ ولماذا يؤثر بهذا العمق على جيل الألفية و"جيل زد"؟

وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، يُعرَّف الاحتراق المهني بأنه حالة تنتج عن ضغوط مزمنة في بيئة العمل لم تتم إدارتها بفاعلية. غالبًا ما يتسلل بصمت، لكن أثره يكون عميقًا. قد تلاحظ أنك تشعر بإرهاق عاطفي وجسدي دائم، كأنك تعمل بطاقة فارغة مهما حاولت أن تستريح. تبدأ علاقتك بعملك في التآكل؛ ما كان يوماً مهماً قد يصبح بعيداً، محبطاً، أو حتى بلا معنى. ورغم كل جهودك، يتراجع إحساسك بالإنجاز، وتشعر أنك لم تعد فعّالاً… حتى وأنت تبذل قصارى جهدك.

لماذا نظل أسرى لما يستنزفنا، فقط لأنه يوفّر لنا راتبًا آخر الشهر؟

أسوأ ما في الاحتراق النفسي، إن لم ننتبه له بجدّية، أنه يتسرّب بصمت إلى كل تفاصيل حياتنا. نواصل تجاهل علاماته، ومع الوقت، يتسلّل إلى علاقاتنا، وأسلوب حياتنا، وصحتنا، بل وحتى إلى منطقنا وقدرتنا على اتخاذ القرارات.

وغالبًا ما نجد أنفسنا عالقين في علاقة سامة كهذه: أكره عملي، لكن أحب راتبي. فقدت شغفي بما أقوم به، لكنني أعرف مهامي المعتادة عن ظهر قلب. لم أعد أحتمل الضغوط، لكنني أطمئن نفسي قائلًا: "سيمرّ هذا أيضاً"... وهكذا تستمر العجلة في الدوران بلا توقف.

والمؤسف أنّه كلما ازدادت مسؤولياتك، دفعت نفسك إلى تحمّل ما يفوق طاقتك. ستمرّ بلحظات تشعر فيها أن الضغط يخنقك، لكنك تفاجئ نفسك بالتمسّك أكثر، بلا استقالة ولا راحة. تهمس لنفسك: "يجب أن أغادر… هذا العمل ينهش روحي ويجعلني أشعر بالموت في داخلي"، ومع ذلك ترفض أن تأخذ إجازة وتواصل الحضور.

ساعدني فهم الاحتراق النفسي على إدراك أنه ليس مجرد إرهاق جسدي، بل أعمق من ذلك بكثير. حاولت الانتقال إلى آلية العمل عن بُعد بحثاً عن بعض الراحة، على أمل أن يخفّف عني ثِقل جرّ نفسي إلى المكتب كل صباح. خطوة تمنحني مساحة أوسع مع الحفاظ على مصدر دخلي.

ولأكون صادقة، كان لذلك أثر واضح في حياتي. أصبحت أنام بقلق أقل، وأحياناً لساعات أطول. لم أعد أستيقظ على عجل لأجهز الطعام وأرتدي ملابسي، فصار صباحي أخف وأسهل. في الأشهر الأولى بدا الأمر ناجحاً بالفعل؛ كنت أكثر حماسة وتحفيزاً، ووجدت بعض الراحة. لكن سرعان ما أدركت أن عقلي بحاجة إلى ما هو أبعد من مجرد ابتعاد جسدي عن المكتب.

ولكن سرعان ما بدأ التوتر يتراكم من جديد، وأصبح الخط الفاصل بين عملي وحياتي الشخصية أرقّ من أي وقت مضى، بلا توقيع دخول أو خروج يضبطه. ومع مرور الوقت شعرت بضغط متزايد، وزاد الأمر سوءاً أنني لم أعد ألتقي الناس ولا أتحرك كثيراً، فتحوّل ذلك الملاذ الذي حلمت به يوماً إلى كابوس من نوع آخر.

استعادة الوضوح: كم سيستغرق الأمر لتدرك أنك تعاني من الاحتراق المهني؟

بعد عدة أشهر، أدركت الحقيقة: لا يهم من أين أعمل، فالعمل يظل عملاً. كنت بحاجة إلى مساحة أبتعد فيها عن العالم المؤسسي تماماً، إلى ملاذ يمكن لعقلي وروحي أن تنهضا فيه من جديد من بين الرماد. أمضيت أياماً وأنا أضغط على نفسي لأتخذ تلك القفزة الكبرى نحو حرية غامضة، حرية يجدها العقل القَلِق مخيفة. وفي النهاية، زادت معاناتي، غارقة في التفكير، أدفع نفسي نحو الاستقالة بلا هوادة.

في خضم هذا الصراع، حالفني الحظ في شكل طلب طارئ من عائلتي يستدعي مغادرتي البلاد لأكون معهم، بعيداً عن مكتبي ووظيفتي وحياتي كلها. ذلك النداء الغير مخطط له كان كل ما أحتاجه كي أرى بوضوح المأزق الذي كنت أعيش فيه.

نحن لا نستطيع أن نرى حقاً ما نحن فيه عندما نكون في قلب العاصفة. وحدهم من يقفون خارجها يمكنهم رؤية هول المشهد. إنك تراقب من تعصف بهم يُصابون بالأذى ولكنهم يحاولون الاستمرار، وتتساءل لماذا لا يغادرون فحسب. لكن السبب، وبشكل عجيب، أنهم اعتادوا على هذا المكان، وصار من الصعب عليهم ترك العاصفة والبدء من جديد في مكان مختلف.

هل التحرر من الاحتراق النفسي خطوة نحو الحرية أم مخاطرة؟

استغرق الأمر مني عدة أشهر لأفكر جيدًا وأستجمع كل شجاعتي للتخطيط لمغادرة عملي. كنت أعلم أنني سأواجه نقصاً في المال، وديوناً متراكمة، والتزامات مالية لن أستطع تلبيتها، لكنني واصلت طمأنة نفسي بأنني بحاجة للتوقف عن التضحية بروحي مقابل نفس الراتب، وأن علي أن أحرر نفسي حتى لو كان الثمن غالي.

أتذكر أن إعداد ميزانيتي المالية للفترة الانتقالية كان عبئاً ثقيلاً على كاهلي، لكنني كنت مصممة على اتخاذ هذه الخطوة من أجلي. كان قلبي ممتلئاً بالخوف، ولطالما كان كذلك طوال السنوات الماضية في كل مرة كنت أرى فيها إعلانات تسريح الموظفين.

إحساس التحرر كان مثيراً للغاية. لم أعد مضطرة للاستيقاظ في نفس الوقت، أو القيام بنفس الروتين، أو محاولة إرضاء الآخرين، أو تجاهل نفسي وعائلتي لخدمة شخص آخر. كانت لدي رؤية لما أريد فعله حقاً، وفجأة غمرني شعور بالحيوة والطاقة من جديد، وغدوت مستعدة للعمل ليلاً ونهاراً لكي أترك بصمتي الخاصة في العالم المهني.

خلاصة لأذهان منفتحة…

أنا لا أقصد أن نهرع جميعاً لترك وظائفنا في الحال، فالبقاء لبعض الوقت لاكتساب الخبرة وفهم عالم الأعمال ضروري. ولكن علينا أن نحرص ألا نطيل البقاء حتى يرهقنا العمل ويبتعد بنا عن هدوئنا الداخلي لدرجة ننسى فيها أنفسنا.

نحن لسنا مجرد تروس في آلة المؤسسات. تعلّم تقدير ذاتك، وخذ استراحات قبل أن يدمر الاحتراق النفسي توازن. تذكّر لماذا بدأت، وامتلك الجرأة على استعادة هدوءك وسلامك الداخلي.

اليوم أكثر من أي وقت مضى، يتحدى جيل الألفية و"جيل زد" التعريفات القديمة للنجاح، مقدمين صحتهم النفسية وسعادتهم وتوازنهم على الركض المستمر خلف الإنجاز. إذا كنت تشعر بالاحتراق النفسي ومع ذلك لا تزال تقاوم، فاعلم أن سعيك لشيء أفضل ليس مجرد حق مشروع، بل جزء من تحولٍ جيلِي نحو استعادة العمل وفق شروطنا الخاصة.

هل شعرتِ بهذا التناقض بين الإرهاق والالتزام أيضاً؟

مشاركة